للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وترغيب وترهيب، وضرب مثال، وبيان حال. ومع ذلك يوجد فيه كمال الربط والدرجة العالية للبلاغة الخارجة عن العادة فتحير فيها عقول بلغاء العرب. (١)

ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه، وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره مبلغًا لا يداينه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد. وآية ذلك أنك إذا تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسمًا كاملًا، تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه، ولمحت فيه روحًا عامًا يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه؛ فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة، على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة فبين كلمات الجملة السورة الواحدة من التناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب، وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء، متعانقة الآيات. وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابًا سويّ الخلق، حسن السمت {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: ٢٨] فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار، على حين أنها مؤلفة من حلقات، لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ذات أجزاء، ولكل جزء موضع خاص من الحلقة، ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة؛ لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد، جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة وحدة بديعة متآلفة، تُريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء، ثم بين كل حلقة وحلقة، ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها.

يَعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كلُّ من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه من غير تفكك ولا تخاذل ولا انحلال ولا تنافر، بينما الموضوعات مختلفة متنوعة؛ فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك. وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات فنحيلك عليها، ونكتفي بمثال واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار.

الوجه الثالث عشر: الإعجاز في عرضه القصصي.


(١) إظهار الحق (٢/ ٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>