للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمثال ذلك: قال الكرماني في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} [البقرة: ٦٢]، وقال في (الحج: ١٧): {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى}، وقال في (المائدة: ٦٩) {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى}؛ لأن النصارى مقدمون على الصابئين في الرتبة؛ لأنهم أهل كتاب فقدمهم في البقرة، والصابئون مقدَّمون على النصارى في الزمان؛ لأنهم كانوا قبلهم فقدمهم في الحج، وراعى في المائدة بين المعنيين فقدّمهم في اللفظ، وأخّرهم في التقدير؛ لأن تقديره والصابئون في كذلك، قال الشاعر:

فإن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب (١)

[الوجه السادس عشر: الإعجاز في تيسير الله القرآن للذكر]

فمن إعجاز القرآن أن قارئه لا يملّه، وسامعه لا يمجّه؛ بل الإكباب على تلاوته يُزيده. (٢)

قلت: وسبب ذلك تيسيرُ الله القرآنَ للذّكرِ.

قال الباقلاني: فقد سهل الله سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة. وجعله قريبًا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس.

وهو مع ذلك ممتنعُ المطلب، عسيرُ المتناول، غير مُطمِع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوّه في موقعه أن يقدر عليه، أو يظفر به.

فأمّا الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز.

ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف - لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع، ولكنه أوضح مناره، وقرّب منهاجه، وسهّل سبيله، وجعله في ذلك متشابهًا متماثلًا، وبين مع ذلك إعجازهم فيه.


(١) أسرار التكرار في القرآن (١/ ٣١)، وانظر: شبهة التكرار في القرآن من هذه الموسوعة.
(٢) الإتقان في علوم القرآن (٢/ ٣٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>