للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أنَّ ما وقع من سبِّه ودعائِه ونحوِه ليس بمقصودٍ، بل هو مما جَرَتْ به عادةُ العربِ في وصلِ كلامِها بلا نيةٍ كقولِه: "تَرِبَتْ يمينُك" و "عَقرَى حَلقَى" و"لا أشبعَ اللهُ بطنَه" ونحوِ ذلك لا يقصدون بشيءٍ من ذلك حقيقةَ الدعاءِ فخافَ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يصادفَ شيءٌ من ذلك إجابةً فسأل ربَّه سبحانه وتعالى، ورَغِبَ إليه في أن يجعلَ ذلك رحمةً وكفارًة، وقربةً، وطَهورًا، وأجرًا، وإنما كان يقعُ هذا منه في النادرِ، والشاذِّ من الأزمانِ، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا لعانًا، ولا منتقمًا لنفسه، وقد سبق في هذا الحديثِ أنهم قالوا: ادعُ على دوسٍ فقال: اللهم اهدِ دوسًا، وقال: اللهم اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمون .. واللهُ أعلمُ.

وأما دعاؤه على معاويةَ أن لا يَشْبعَ حين تأخرَ، ففيه الجوابان السابقان:

أحدهما: أنه جرى على اللسانِ بلا قصدٍ.

والثاني: أنه عقوبةٌ له لتأخرِه.

وقد فهم مسلمٌ من هذا الحديثِ أنَّ معاويةَ لم يكن مستحقًا للدعاءِ عليه؛ فلهذا أَدخَلَه في هذا البابِ، وجَعَلَه غيرُه من مناقبِ معاويةَ -رضي الله عنه- لأَنَّه في الحقيقةِ يصيرُ دعاءً له. (١)

قال ابن كثير رحمه الله: وقد انتفعَ معاويةُ -رضي الله عنه- بهذه الدعوةِ في دنياه وأُخراه؛ أما في دنياه: فإنَّه لما صارَ إلى الشامِ أميرًا كان يأكلُ في اليومِ سبعَ مراتٍ يُجاءُ بقصعةٍ فيها لحمٌ كثيرٌ، وبصلٌ فيأكلُ منها، ويأكلُ في اليومِ سبعَ أَكْلاتٍ بلحمٍ، ومن الحلوى والفاكهةِ شيئًا كثيرًا، ويقولُ: والله ما أشبعُ، وإنما أعيا وهذه نعمةٌ، ومَعِدَةٌ يرغبُ فيها كلُّ الملوكِ، وأما في الآخرةِ فقد أَتبعَ مسلمٌ هذا الحديثَ بالحديثِ الذي رواه البخاريُّ، وغيرُهما من غيرِ وجهٍ عن جماعةٍ من الصحابةِ أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنما أنا بشرٌ فأيُّما عبدٍ سببتُه، أو جلدتُه، أو دعوتُ عليه، وليس لذلك أَهلًا فاجعل ذلك كفارةً، وقربةً تقر بُه بها عندك يومَ القيامةِ" فرَكَّبَ مسلمٌ من الحديثِ الأولِ وهذا الحديثِ فضيلةً لمعاويةَ. اهـ (٢)

الوجه الثاني: وهو كتابتُه للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.


(١) شرح مسلم للنووي (١٦/ ١٥٢ - ١٥٦).
(٢) البداية والنهاية (٨/ ١٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>