للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.

وأما فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنه مبنيٌّ على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يَعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء، فإنّ من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأنّ ذلك كان أخص شمائله، وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه إلى يومنا هذا {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦)} [يونس: ١٦] (١).

[الوجه العاشر: آية المباهلة.]

وذلك أن القرآن دعا إلى المباهلة، وهي مفاعلة من الابتهال والضراعة إلى الله بحرارة واجتهاد فأبى المدعوون وهم النصارى من أهل نجران أن يستجيبوا لها، وخافوها ولاذوا بالفرار منها مع أنها لا تكلفهم شيئًا سوى أن يأتوا بأبنائهم ونسائهم ويأتي الرسول بأبنائه ونسائه ثم يجتمع الجميع في مكان واحد يبتهلون إلى الله، ويضرعون إليه بإخلاص وقوة أن ينزل لعنته وغضبه على من كان كاذبا من الفريقين، قال سبحانه في سورة آل عمران: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ونقول: أليس هذا دليلًا ماديًا على أن القرآن كلام القادر على إنزال اللعنة، وإهلاك الكاذب، ثم أليس قبول محمد - صلى الله عليه وسلم - لهذه المباهلة مع امتناع أعدائه دليلًا على أن صدقه في نبوته كان أمرًا معروفًا مقررًا حتى في نفوس مخالفيه من أهل الكتاب. (٢)

الوجه الحادي عشر: توقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان.


(١) النبأ العظيم ٥١، ٥٢.
(٢) مناهل العرفان ٢/ ٢٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>