لقد كان يجيئه الأمر أحيانًا بالقول المجمل، أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله، حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ .
أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟ .
وإليك مثال على ذلك: مسلكه في قضية الحديبية:
اقرأ في صحيح البخاري (١) وغيره قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: ١٩٠] فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذرًا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع، ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشًا قد جمعت جموعها على مقربة منهم، فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذلك استبسالًا وصمموا على المضي إلى البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه. وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بَرَكت راحلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء - أي حرنت الناقة - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل"، يعني أن الله الذي اعتقل الفيل ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين، هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة. وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى، فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير امتثالًا لهذه الإشارة الإلهية، التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلًا: "والذي نفسي