للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يجوز، بلغنا ذلك عن عائشة - رضي الله عنها -، ونظائره في الكتب كثيرة، وهذا لأنهم ما كانوا يفتون جزافًا، وإنما كانوا يفتون سماعًا أو اجتهادًا، فإن كان سماعًا يلزمنا اتباعهم، وهذا ظاهر، وإن كان اجتهادًا فكذلك، لأنهم صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعاينوا وشهدوا التنزيل، وشهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، بقوله: "خير القرون قرني الذي أنا فيهم". فيوفقون في الصواب بسبب صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكونهم خير القرون ما لا يوفق غيرهم؛ ولأنهم عرفوا طريق رسول الله في بيان الأحكام، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص، والمحال التي تعتبر باعتبارها الأحكام، فيكون رأيهم أقوى، واجتهادهم أصوب (١).

الوجه الثاني: هذا الموقف من تقديم القياس على الخبر ليس خاصًا بأبي هريرة عند القائلين به، بل هم يعممونه في كل راوٍ غير فقيه. (٢)

[الوجه الثالث: القول بعدم فقه أبي هريرة غير صحيح.]

والحنفية محجوجون في هذا، فقد نقل عن كبار الصحابة أنهم تركوا القياس بخبر الواحد، والتفرقة بين الراوي الفقيه وغيره أمر مستحدث، والذي عليه جماهير العلماء سلفًا وخلفًا أن خبر الواحد إذا ثبت مقدم على القياس، وأيضًا فكون أبي هريرة غير فقيه غير مسلَّم لهم، فمعظم الصحابة ولا سيما المعروفون بالرواية كانوا فقهاء علماء، وقد عده ابن حزم في فقهاء الصحابة، ونقل عنه الحافظ ابن حجر أنه من الطبقة الثانية من أهل الفتيا مع أبي بكر وعثمان وأبي موسى ومعاذ وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، وحديث أبي هريرة في المصراة صحيح غاية الصحة، وليس أدل على هذا من أن ابن مسعود - وهو ممن قال الحنفية أنه فقيه - كان يفتي بوفق حديث أبي هريرة، ولهذا أورد البخاري بعد حديث أبي هريرة في المصراة حديث ابن مسعود وهو موقوف عليه، قال: مَنِ اشْتَرَى شَاةً محُمَّلَةً، فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا، وهذا من فقه البخاري وبعد نظره ... وإليك ما قاله صاحب عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان قال: في أثناء الرد على من زعم أن أبا حنيفة خالف بعض الأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،


(١) المحيط البرهاني لـ (محمود بن أحمد بن الصدر الشهيد النجاري برهان الدين مازه) ٨/ ٤٠٨، وانظر السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (٣١٥).
(٢) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (٣١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>