الحديث النبوي، وإنما المقصود هو المعنى، ومع حصول المعنى فلا أثر لاختلاف اللفظ، وهذا أمر يقيني لا ريب فيه ولا نكير، وبخاصة أن الذين رووا الحديث بمعناه كانوا عربًا خُلَّصًا غالبًا، وكانوا فرسان فصاحة وبلاغة، وأنم سمعوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو ممن سمع منه، وهم من أعلم الناس بمواقع الخطاب ومحامل الكلام، وأنهم أهل دين وتقوى وعدالة وضبط، ويعلمون أن ما يروونه أمر دين، فإذا ما أخل أحدهم بمعنى الرواية لغير قصد؛ فإن جهابذة أهل الفن ينتقدونه عليه، ويبينون وجه الصواب فيه.
[الوجه الثاني: أن الأصل هو المنع من رواية الحديث بالمعنى.]
قال القاضي عياض: باب تحرى الرواية والمجيء باللفظ:
لا خلاف أن على الجاهل والمبتدئ، ومن لم يمهر قي العلم، ولا تقدم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل وفهم المعاني؛ أن لا يكتب، ولا يروى، ولا يحكى حديثًا إلا على اللفظ الذي سمعه، وأنه حرام عليه التعبير بغير لفظه المسموع، إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة، وتصرف على غير حقيقة في أصول الشريعة، وتقول على الله ورسوله ما لم يحط به علمًا.
وقديمًا هاب الصحابة رضوان الله عليهم فمن بعدهم الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبديل اللفظ المسموع منه، وحض النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وأمر بإيراد ما سمع منه كما سمع.
فعن البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجَعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ اللهمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمري إِلَيْكَ، وَأَلجأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللهمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتكَلَّمُ بِهِ".
قَالَ: فَرَدَّدْتها عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَلَما بَلَغْتُ:"اللهمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ" قُلْتُ: وَرَسُولكَ، قَالَ:"لا، وَنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ (١) ".