للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن اسباب تقديم بر الوالدين أيضًا: أن الفاعل له لا يرى أنه إنما يفعله مكافأة لفعلهما له، فكأنه لا يرى فيه كبير عمل، والجهاد يرى لنفسه فيه كبير عمل (١).

ومما سبق يتضح أن سبب تقديم بعض الأعمال على الآخر في وقت من الأوقات وعدم تقديمه في وقت آخر أن أفضلية العمل تتراوح من وقت لآخر، فتارة يكون الجهاد فرض عين، وتارة يكون فرض كفاية حسب حالة الأمة، والحج يكون فرضًا على من لم يحج، ونفلًا لمن حج قبل ذلك، وكذلك بر الوالدين فتارة يكونان (أي الوالدين) على قيد الحياة، وبعد فترة يتوفاهما الله -رضي الله عنه-، فلكي تحكم على عمل أنه هو (الأفضل) لابد من مراعاة هذه الأمور.

[الوجه الثالث: أن المراد (من) أفضل الأعمال، فحذفت (من) وهي مرادة.]

يجوز أن يكون المراد: (من أفضل الأعمال) كذا أو (من خيرها) أو (من خيركم من فعل كذا)، فحذفت (من) وهي مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم، ومن ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خيركم خيركم لأهله، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقًا. (٢)

[الوجه الرابع: إن الأعمال المذكورة منها ما هو قلبي متعلق بعمل آخر بدني لا ينفك أحدهما عن الآخر.]

فإذا نظرنا في الحديث الثاني حديث (ابن مسعود) نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا" بدلًا من "الإِيمَان بِالله" في الحديث الأول والثالث، ومن المعلوم أن الصلاة لا تصح بدون الإيمان بالله، لا في وقتها ولا غير وقتها، وفي حديث (ابن مسعود) نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ربط بين العمل البدني والعمل القلبي؛ فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك رابط بين الإيمان بالله ورسوله، والصلاة، وبر الوالدين، والجهاد، والحج.

وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك


(١) التوضيح ٢٨/ ٢٣٧.
(٢) شرح مسلم للنووي ١/ ٣٥٤، وانظر فتح الباري ٢/ ١٣، التوضيح ٢/ ٦٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>