للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوجه الثامن: الحكمة من وصف عيسى بهذين الوصفين.]

قال ابن عاشور: فإن قلت: مما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى، وهلَّا وُصف المسيحُ في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: ١١٠] فكان أصرح في بيان العبوديّة، وأنفي للضلال.

قلت: الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل أو في كلام الحواريّين وصفًا لعيسى - عليه السلام -، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذٍ، فلمَّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما، فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل؛ أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنَّه ابن الله وأنَّه إله، وتصدير جملة القصر بأنّه {رَسُولَ اللَّهِ} ينادي على وصف العبوديّة؛ إذ لا يُرسل الإله إلهًا مثله، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح (١).

[الوجه التاسع: الأدلة على أن عيسى عبد الله ورسوله.]

أولًا من القرآن:

قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢)} [النساء: ١٧٢].

قال الطبري: أخبر جل ثناؤه عباده أن عيسى وأمَّه ومن في السموات ومن في الأرض؛ عبيدُه وإماؤه وخلقه وأنه رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه احتجاجًا منه بذلك على من ادّعى أن المسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا لم يكن ذا حاجة إليه، ولا كان له عبدًا مملوكًا (٢).


(١) التحرير والتنوير (٦/ ٥٣).
(٢) تفسير الطبري (٤/ ٣٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>