الوجيزة التي يتلقى فيها القرآن، فاقتران هذه الأعراض العضوية بهذا الحدث الوحي برهان جلي على براءة ظاهرة (الوحي) من شوائب الذات الإنسانية الصحيحة أو العليلة.
[ثانيهما: الأحوال النفسية]
لقد انتاب الخوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ملك الوحي في جولاته الأولى، حتى خشي على نفسه الهلاك، وكان الأمر مبهمًا بالنسبة إليه حتى راح يستفسر عنه، ثم عرض له فأرعبه حتى لاذ منه بالفرار، والتجأ إلى التدثر والتزمل ليسكن فؤاده، ويدفع عن نفسه مشاهدة الملك، ووميض الوحي، فلم يجده ذلك شيئًا، فإذا بلغ الوحي أشده وقرع صليله مسامع الرسول، اتجه وعيه كلية إلى ملك الوحي، حتى يقتضي مقالته، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتملص طواعية من ملك الوحي، لكن سلطان وحي الله لم يترك له مناصًا من الإذعان والتلقي، إن مقاومته تلك تدل على التعارض بين وجهته التي اتخذها بدافع من سجيته الشخصية وبين حتمية النبوة التي طوقت إرادته وهيمنت على ذاته، وفي هذه القرائن دلائل قوية للنظرة الموضوعية في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
٣ - الوحي مستقل عن ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرادته.
يظهر لك من الخصيصتين السابقتين أن الوحي خارج عن ذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو تلقائي فجائي إلزامي، والأعراض الجسدية والأحوال النفسية تفيد استقلاله عن إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعجزه عن دفعه عن نفسه، وتفيد القرائن أيضًا عجزه عن استحضاره؛ فإن الوحي قد انقطع بعد أن جاءه الملك في غار حراء أول مرة، فلما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - جلية الأمر أقض مضجعَه فتورُ الوحي، فقد خاف أن يكون حُرم نعمة النبوة، فلما شاهد الملك على كرسي بين السماء والأرض فزع إلى أهله يتدثر ويتزمل، وفي فترة الوحي هذه حكم إلهية جلية منها:
١ - أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فَجَأَهُ ملك الوحي أول مرة في الغار هاله لقاؤه، ونفر منه طبعه البشري لمخالفته المألوف الإنساني، ولم يتمكن بالتالي من التأمل في تلك الحال، فجاءت فترة الوحي تعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسحة لإنعام النظر، واطمئنانًا إلى تلقي الوحي وألفةً للملك - عليه السلام -،