الوجه الرابع: أمر حدث لأول مرة وهو القتل فترتب عليه احتياجه لدفنه، وما كان يعلم ذلك قط فأرسل الله الغراب يُعلم القاتل ما يفعل بالمقتول.
زعموا وقالوا: وهل يعقل أن القاتل كان يجهل مثل هذا الأمر (أي الدفن) مدة حياته ولم ير طيرًا أو حيوانًا يوارى في التراب فيفعل مثله؟
والجواب كما يلى:
إن كان من ناحية الشرع فالآية أوضحت ذلك وهو أنه لم يدر ماذا يفعل بأخيه فبعث الله الغراب فعلمه.
قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)} [المائدة: ٣١]، أما من ناحية العقل فهذا ليس ببعيد؛ إذ هي أول حالة قتل ولا يدري ماذا يفعل فيها. وقياس الإنسان على الحيوان في مسألة الدفن قبل أن يعلم - إن سلمنا جدلًا أن الحيوان أو الطير يدفن - قياس بعيد، كيف يقاس إنسان على حيوان؟
فهو لو كان يعلم أن الطير أو الحيوان يدفن؛ لكان ذلك أيضًا بعيدًا عليه.
نقول ذلك في حالة إن كان الطير أو الحيوان يدفن، وأيضًا يجاب عن كلامهم أنه في الغالب أن الحيوان والطيور إن ماتت لا تدفن فكيف لا وهي في بداية الحياة؟
فكثير من الأماكن إذا مات عندهم طير أو حيوان تركوه وما دفنوه، تركوه للسباع فيأكلوه.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: لما كان هذا القتل أول قتل وقع من بني آدم - عليه السلام -، ولما كان هذا النوع من الخلق "أي الإنسان" موكولًا إلى كسبه واختياره في عامة أعماله؛ لم يعرف القاتل كيف يواري جثة أخيه المقتول التي يسوءه أن يراها بارزة - فالسوءة ما يسوء ظهوره، ورؤية جسد الميت ولا سيما المقتول يسوء كل من ينظر إليه ويوحشه - وأما سائر أنواع الحيوان فتلهم عمل لا تحتاج إليه إلهاما في الأكثر، وقلما يتعلم بعضها من بعض شيئًا. وقد علمنا الله - تعالى - أن القاتل الأول تعلم دفن أخيه من الغراب.