للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوجه الرابع: إثبات حياء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لم ير عريانا قط.]

عنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا (١).

قال الحاقظ: قوله: (أشد حياء من العذراء): أي البكر، وقوله في (خدرها) بكسر المعجمة: أي في سترها. وهو من باب التتميم؛ لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها، فالظاهر أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها في خدرها، لا حيث تكون منفردة فيه، ومحل وجود الحياء منه - صلى الله عليه وسلم - في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا "أنكتها" لا يكني، وأخرج البزار هذا الحديث من حديث أنس - رضي الله عنه - وزاد في آخره وكان يقول: "الحياء خير كله"، وأخرج من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قط. وإسناده حسن (٢).

وقال -رحمه الله-: قوله: الحياء من الإيمان حكى ابن التين، عن أبي عبد الملك أن المراد به كمال الإيمان، وقال أبو عبيد الهروي: معناه: أن المستحى ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن له تقية فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي.

قال عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة، لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم، وأما كونه خيرا كله ولا يأتي إلا بخير فأشكل حمله على العموم؛ لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات، ويحمله كل الإخلال ببعض الحقوق، والجواب: أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيًا، بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي، وهو: خُلُق يبعث على ترك القبيح، قلت: ويحتمل أن يكون أشير إلى أن من كان الحياء من خلقه، أن الخير يكون فيه أغلب، فيضمحل ما لعله يقع منه مما ذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار


(١) البخاري (٣٥٦١)، ومسلم (٢٣٢٠).
(٢) فتح الباري (٦/ ٦٦٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>