خوفه بل ترك اللَّه ذلك لتقديره في ضميره وحده، ثم أعلمه اللَّه -سبحانه- أنه على الحقيقة لا يستطيع إقامة ميزان العدل بين الزوجات إقامة تامة لا يدخلها ميل فأمره أن لا يميل كل الميل، فيذر بعض زوجاته كالمعلقة، فاكتفى ربه منه في طاعة أمره بالعدل أن يعمل منه بما استطاع، ورفع عنه ما لم يستطع، وهذا العدل المأمور به مما يتغير بتغير الظروف ومما يذهب ويجيء بما يدخل في نفس المكلف، ولذلك لا يعقل أن يكون شرطًا في صحة العقد، بل هو شرط نفسي متعلق بنفس المكلف وبتصرفه في كل وقت بحسبه، فرب رجل عازم على الزواج المتعدد وهو مُضْمِر في قلبه عدم العدل، ثم لم ينفذ ما كان مصرًا عليه، وعدل بين أزواجه، فهذا لا يستطيع أحد يعقل الشرائع أن يدعي أنه خالف أمر ربه إذ أنه أطاع اللَّه بالعدل، وعزيمته في قلبه من قبل لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه بداهة، خصوصًا وأن النصوص صريحة في أن اللَّه لا يؤاخذ العبد بما حدَّث به نفسه ما لم يعمل به أو يتكلم، ورب رجل تزوج زوجة أخرى عازمًا في نفسه على العدل ثم لم يفعل، فهذا قد ارتكب الإثم بترك العدل ومخالفة أمر ربه، ولكن لا يستطيع أحد يعقل الشرائع أن يدعي أن هذا الجور المحرم منه قد أثر على أصل العقد بالزوجة الأخرى، فنقله من الحل والجواز إلى الحرمة والبطلان، إنما إثمه على نفسه فيما لم يعدل، ويجب عليه طاعة ربه في إقامة العدل، وهذا شيء بديهي لا يخالف فيه من يفقه الدين والتشريع. اهـ. (١)
[الوجه الثالث]
ومما يبين أن العدل في الحب القلبي لا يجب، أن هذا الحب يتغير بتغير الظروف، وهذه الظروف قد تجعلها إحدى الزوجات موافقة للحب، وقد تجعلها الأخرى موافقة لغيره، كأن تكون إحدى الزوجتين في غاية الحب لزوجها، والطاعة، والاحترام، والأدب، والتضحية لأجله، والمواساة بالمال والنفس، والمؤازرة في الشدائد لكل ما تملك، لا تقعد إذا وقف ولا تتكلم إذا نطق، إذا أمرها أطاعته، وإذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته. . . إلخ.
(١) عمدة التفسير لأحمد شاكر ٣/ ١٠٣ - ١٠٦، وانظر جامع أحكام النساء ٣/ ٤٤٩.