للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْتَ جَنَيْت هَذَا"، لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ قِيلَ ابْتِدَاءً لِمَنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالْإِيكَاءِ وَالنَّفْخِ، ثُمَّ صَارَ مَثَلًا عَامًّا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: "الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ" مِثْلُ قَوْلِك "فَرَّطْت وَتَرَكْت الْحَزْمَ، وَتَرَكْت مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَ" وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ قِيلَتْ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَكَذَلِكَ "عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا" أَيْ أَتَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الظَّاهِرِ الْحَسَنِ بَاطِنٌ رَدِيءٌ؟ فَهَذَا نَوْعٌ مِن الْبَيَانِ يَدْخُلُ فِي اللُّغَةِ وَالْخِطَابِ، فَالمُتَكَلِّمُ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ المُبَيِّنِ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذْ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا تَطَلُّبُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ تَطَلُّبِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ، فَهُوَ نَظَرٌ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَا نَظَرٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى، وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ المُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الزمر: ٢٧] فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنْك شُبْهَةً لَفْظِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً.

وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ اللُّغَوِيَّةُ أَنْوَاعٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا أَجْنَاسُهَا، وَهِيَ مُعْلِنَةٌ بِبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَبَرَاعَةِ بَيَانِهِ اللَّفْظِيِّ. وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُونَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ صَارَتْ مَثَلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَصِيرُ الْكَلِمَةُ مَثَلًا حَتَّى يَتَمَثَّلَ بِهَا الضَّارِبُ؛ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنْ تَمَثَّلَ بِهَا كَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ" (١).

وَكَقَوْلِهِ: "مُسَعِّرُ حَرْبٍ" (٢) وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ الاِسْتِفْهَامِ المُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ هُوَ نَفْيٌ مُضَمَّنٌ دَلِيلَ النَّفْيِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ بِمَنعٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْفِي بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ إلَّا مَا ظَهَرَ بَيَانُهُ أَوْ اُدُّعِيَ ظُهُورُ بَيَانِهِ، فَيَكُونُ ضَارِبُهُ إمَّا كَامِلًا فِي اسْتِدْلَالِهِ وَقِيَاسِهِ، وَإِمَّا جَاهِلًا كَالَّذِي قَالَ: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: ٧٨].

[الحكمة من ذكر الأمثال في القرآن]

ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات إلى أن بلغت الألف؛ لأن في التمثيل سرًا لطيفًا وحكمة عالية؛ إذ به يصير الوهم مغلوبًا للعقل، والخيال مجبورًا للانقياد للفكر، وبه


(١) مسلم (٤٧١٢)، مسند أحمد (٤/ ٣٢٦)، واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٢٧٥٢).
(٢) رواه البخاري (٢٥٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>