للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتعاطى شيئًا، ثم يرميه به، وليس في القرآن (فرماني فتعاطى فعقر) ومعناه في الآية: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩)} [القمر: ٢٩] أنه تناول رمحًا، أو خنجرًا، فعقر الناقة به، والإبل تعقر في نحورها، والعُشَّاق إنما يرمون باللحاظ في قلوبهم، فهل يقول العربي بعد ما قال إن محبوبه رماه: إنه تعاطى بعد ذلك فعقر؟ وقد جاء بعد هذا قوله: (بسهام من لحاظ) أي: أنه قد رماه بسهام من سهام العيون، وإذا كان الأمر كذلك، فما فائدة قوله: فتعاطى فعقر. إلا الزيادة في قبح الأسلوب ورداءة المعنى؟

[الوجه الحادي عشر: مخالفة الشبهة لمقتضى العقل وانعدام المنهج العلمي في تقريرها.]

هذا القرآن العظيم الحكيم الذي أعجز الخلق أجمعين في كل شيء من خصائصه ما كان يمنع محمدًا أن ينسبه إلي نفسه إن كان يبغي سيطرةً وسلطانًا وهو من جمعه وأَلَّفَهُ مِنْ شِعر مَن سبقه، ثم هو - صلى الله عليه وسلم - ينسبه لغيره، قال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: ١٥].

يقول الدكتور عبد الله دراز: والذي نعرفه أن كثيرًا من الأدباء يسْطُون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خَفَّ حملُه، وغَلَت قِيمتُه، وأُمِنَتْ تُهْمَتُه حتى أن منهم من يَنبِشُ قبور الموتى ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينةٍ من تلك الأثواب المستعارة. أما أن أحدًا يَنْسِبُ لغيره أَنْفَسَ آثارِ عَقْلِهِ وأغلى ما تجود به قريحته فهذا مَا لَم يَلِدْهُ الدَّهْرُ بعد.

ويقول: أيُّ مصلحة للعاقل الذي يدّعي لنفسه حق الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول: أيُّ مصلحةٍ له في أن ينسب بضاعته لغيره وينسلخ منها انسلاخًا؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدًا يعارضه ويزعمها لنفسه (١).

هذا وإن العرب مع حرصهم الشديد على معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثرة تحديه الدائم لهم لم يطق أحد منهم أن يعارض القرآن، ولا يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ من العبقرية مبلغا بحيث لم


(١) النبأ العظيم صـ ١٧ بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>