والذي يقطع به أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منسوبًا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدًا من أمته، ومخاطبًا بكل شريعته، بل شريعته مستقلة بنفسها، مفتتحة من عند الله الحاكم عز وجل وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر، ولا حضر حلف المطر، ولا حلف المطيبين، بل نزهه الله وصانه عن ذلك.
فإن قيل: فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثًا بسنده عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه، وعهده باستلام الأصنام فلم يشهدهم بعد؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدًّا وقال: هذا موضوع أو شبيه بالموضوع.
وقال الدارقطني: إن عثمان وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده، فلا يلتفت إليه. (١)
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}(البقرة: ١٣٥)، وقال:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}(النحل: ١٢) وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ}(الشورى: ١٣)، وهذا يقتضي أن يكون متعبدًا بشرع.
فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين.
[الوجه الثالث: في معنى هذه الآية]
إذا تقرر هذا فما هو معنى قوله تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}؟
١ - قال جماعة: معنى الإيمان في هذه الآية شرائع الإيمان ومعالمه.
٢ - وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كنت غافلًا عن هذه التفاصيل.
ويجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشرع.
٣ - وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، ونحوه عن أبي العالية.