للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، فكل مسألة علمية، فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه، وذلك عمل، بل هو أصل العمل، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه؛ فإن كثيرًا من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - غير شاكين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به، والرضا به وإرادته، والموالاة والمعاداة عليه.

فلا تهمل هذا الموضع فإنه مهم جدًّا، به تعرف حقيقة الإيمان، فالمسائل العلمية عملية، والمسائل العملية علمية؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلفين بمجرد العمل دون العلم، ولا في العمليات بمجرد العلم دون، العمل. (١)

ومما يوضح لك أنه لابد من اقتران العقيدة في العمليات أيضًا والأحكام: أنه لو افترض أن رجلًا يغتسل أو يتوضأ للنظافة، أو يصلي تريضًا، أو يصوم تطببًا، أو يحج سياحة، لا يفعل ذلك معتقدا أن الله تبارك وتعالى أوجبه عليه وتعبده به، لما أفاده ذلك شيئا، كما لا يفيده معرفة القلب إذا لم تقترن بعمل القلب الذي هو التصديق، كما تقدم.

الوجه الحادي عشر: أن القائلين بهذه العقيدة الباطلة لو قيل لهم: إن العكس هو الصواب؛ لما استطاعوا رده؛ فإنه من الممكن أن يقال: لما كان كل من العقيدة والعمل يتضمن أحدهما الآخر، فالعقيدة يقترن معها العمل، والعمل يقترن معه عقيدة - على ما بيناه آنفا -، ولكن بينهما فرقًا واضحًا من حيث إن الأول إنما هو متعلق بشخص المؤمن، ولا ارتباط له بالمجتمع، بخلاف العمل؛ فإنه مرتبط بالمجتمع الذي يحيا فيه المؤمن ارتباطًا وثيقًا، فبه تستحل الفروج المحرمة في الأصل، وتستباح الأموال والنفوس، فالأمور العملية من هذه الوجهة أخطر من الأمور الاعتقادية.

ومثال ذلك: رجل مات وهو يعتقد بأن سؤال الملكين أو ضغطة القبر حق، بناء على حديث آحاد، وآخر يعتقد استباحة شرب قليل من النبيذ المسكر كثيره، أو يستحل نكاح


(١) مختصر الصواعق المرسلة (٥٦١).

<<  <  ج: ص:  >  >>