للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت درجات إيمانهم من أقوى الدرجات، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)} لأن الأجيال المتأخرة لا يمكن مقارنة إيمانهم بمن عاصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم وإن اجتهد بعض المتأخرين اجتهاد الأولين، فإنهم عدد قليل، وأما في أصحاب اليمين فكثير من يجتهد ليصل لهذه الدرجة لذلك قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)}.

[الوجه الثالث: إثبات الأفضلية للأولين على الآخرين.]

فعن عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَيْرُ النَّاس قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينه، وَيَمِينه شَهَادَتَهُ".

قَالَ إِبْرَاهِيمُ (الراوي عن عبيدة): وَكانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ (١).

قال ابن حجر: وَقَالَ أَبو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ: مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ النَّهْيُ عَنْ مُبَادَرَةِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِالله وَعَلَى عَهْدِ الله لَقَدْ كَانَ كَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَضْرِبونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصيرَ لهمْ بِهِ عَادَةٌ فَيَحْلِفُوا فِي كُلِّ مَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ (٢).

قَوْله: "تَسْبِق شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ "قَالَ الطَّحَاوِيُّ: أَيْ يُكْثِرُونَ الْأَيْمَانَ فِي كُلّ شَيْء حَتَّى يَصير لَهُمْ عَادَة، فَيَحْلِف أَحَدهمْ حَيْثُ لَا يُرَاد مِنْهُ الْيَمِين وَمنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَحْلَف.

وَقَالَ غَيْره: المُرَاد يَحْلِف عَلَى تَصْدِيق شَهَادَته قَبْل أَدَائِهَا أَوْ بَعْده، وَهَذَا إِذَا صَدَرَ مِنْ الشَّاهِد قَبْلَ الحكْم سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: المُرَاد التَّسَرُّعُ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَالْيَمِين، وَالحرْص عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَدْرِي بِأَيِّهِمَا يَبْدَأ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ (٣).

وهذا فيه دليل على أفضلية الأولين على الآخرين، وأن الورع يقل كلما مرت هذه القرون الأول، فلذلك {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)} في هؤلاء الأخيار {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)} فيمن يكونون من السابقين.

واتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ خَيْر الْقُرُون قَرْنه صَلَّى - صلى الله عليه وسلم -، وَالمُرَاد أَصْحَابه، وقوله: "خَيْر النَّاس"


(١) أخرجه البخاري (٢٦٥٢)، مسلم (٢٥٣٣).
(٢) فتح الباري (٥/ ٣٠٩).
(٣) فتح الباري (١١/ ٥٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>