محترفًا، فالعبرة هنا بالحقيقة القضائية لا الحقيقة الواقعية، ومن ثَمَّ الضبطية القضائية.
أما في التشريع القرآني فليست العبرة فقط بهذه الضبطية القضائية، ولكن بضمير الإنسان نفسه أي: التقوى. أي: أن تحقيق العدل عملية مركبة لا تتوقف فقط على ضمير القاضي وورعه -خاصة إذا علمنا أن القاضي الشرعي أيضًا يحكم باسم المجتمع لا باسم اللَّه رغم قيامه بوظيفة من وظائف اللَّه على الأرض- وإنما بنصيب وافر على نزاهة الخصوم، مما يضاعف من دور القاضي في إعمال تزكية الخصوم، وذلك بحثِّ الخصوم على تقوى اللَّه وخشيته، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}(النساء: ١٥٣) وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة: ٨).
وذلك يعكس الفهم السليم لعمل القاضي الشرعي وإظهار دوره بأمر يتعلق بجانب مهم جدًّا ذي صلة قوية بالمدنية الحديثة ألا وهو الجانب المالي وهو يستصحب أثر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي ربَّى أصحابه على حرية الرأي، واستقلال الإرادة، وقوة الشخصية مما يمكنه من تحليل الأمور، واقتراح العلاج المناسب عند القضاء والتشريع.
طرق الإثبات: ليس للبينات عدد يحصرها، وإنما المدار فيها على ثبوت الحق وإظهاره، فكل ما يؤدي إلى معرفة الحق، وإقامة العدل، وإشاعة الأمن - فهو بينة متى كان متفقًا مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومبادئها العامة، وقواعدها الكلية، ويحقق مقاصدها، ولا شك أن القول بهذا يفتح ميادين واسعة للاستفادة من كل ما توصل إليه الفكر البشري من تجربة ومخترعات، ومكتشفات، الأمر الذي يوجب على رجال القضاء وأجهزة الأمن وسلطات التحقيق- التوجه نحو الاستفادة من الوسائل العلمية الحديثة في سبيل مكافحة الجريمة وكشفها وإثباتها، طالما أن المجرمين بدورهم قد طوعوا هذه الوسائل لخدمة مخططاتهم الإجرامية، فليس من العدالة حرمان الأجهزة المسئولة عن أمن المجتمع وطمأنينته من الأخذ بها.