للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا رجلًا روى أخباره عن واحد منهما.

فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟ ذلك وهو لم يتعاط علم المعرفة والتنجيم، ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطًا من الصدق والكذب، والصواب والخطأ. بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفوًا ما تعجز صروف الدهر وتقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفًا واحدًا مما ينبئ به {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)} [فصلت: ٤١, ٤٢]. (١)

قال الزرقاني: ومعنى هذا أن القرآن قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بها ولا سبيل لمثله أن يعلمها مما يدل دلالة بينة على أن هذا القرآن المشتمل على تلك الغيوب لا يعقل أن يكون نابعا من نفس محمد ولا غير محمد من الخلق؛ بل هو كلام علام الغيوب وقيوم الوجود الذي يملك زمام العالم وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، من ذلك قصص عن الماضي البعيد المتغلغل في أحشاء القدم، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إلى رؤيته ومعرفته فضلًا عن التحدث به، وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء. وسر الإعجاز في ذلك كله أنه وقع كما حدث وما تخلف وجاء على النحو الذي أخبر به في إجمال ما أجمل، وتفصيل ما فصل، وأنه إن أخبر عن غيب الماضي صدقه ما شهد به التاريخ، وإن أخبر عن غيب الحاضر صدقه ما جاء به الأنبياء وما يَجِدُّ في العالم من تجارِب وعلوم، وإن أخبر عن غيب المستقبل صدقه ما تلده الليالي وما تجيء به الأيام. (٢)

الوجه الثالث عشر: بقاء القرآن محفوظًا دليلٌ على أنه من عند الله.


(١) النبأ العظيم (٦٥ - ٧٠) بتصرف، وانظر دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم (٢٠٣ - ٢١٠).
(٢) مناهل العرفان ٢/ ٣٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>