الأولى: أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ودار الإسلام.
والثانية: أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكرًا لله تعالى على إبلاغه مقصده، وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذل نفسه بخدمة تلك المرأة استعانة على الهجرة في سبيل الله عوضه الله تعالى بأن زوجه إياها تخدمه فوق ما خدمها، ثم كان على طريقته في التواضع والتحدث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلفه، وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة. (١)
[الشبهة الثالثة: طعنهم في إكثار أبي هريرة من الرواية.]
يرى البعض أن كثرة رواياته مع قصر مدة صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يدعو إلى الشك في صحتها.
والرد على ذلك من هذه الوجوه:
[الوجه الأول: ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.]
لقد لازم أبو هريرة - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع سنوات في حله وترحاله، ولم يفارقه قط، بل كان يلازمه على جوعه حتى كاد أن يموت من الجوع كل هذا صبرًا على التعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الحديث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: إنّ كُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحدِيثَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَتَقُولُونَ مَا بَالُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّ إخوتي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ ألزَمُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مِلْءِ بطني، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتي مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالهِمْ، وَكُنْتُ امرأ مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أعي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ:"إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مقالتي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أقولُ" فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَليّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقَالتهُ جَمَعْتُهَا إِلَى
(١) الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة (١٥٠).