للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية، وإنها نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية، هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟ .

توفي عبد الله بن أُبَيْ كبير المنافقين، فكفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر - رضي الله عنه -: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنما خيَّرني ربي فقال:

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: ٨٠] وسأزيدُه على السبعين، وصلَّى عليه، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: ٨٤] فترك الصلاة عليهم (١).

اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين، وانظر ماذا ترى؟ إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع، وقد اتخذ من القرآن دستورًا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييرًا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع، وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها، تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة، ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة، وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض، بل تصدع بالبيان فرقانًا بين الحق والباطل، وميزانًا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين، ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود (٢).

[الوجه السادس: ما نزل بعد طول انتظار.]

ومعنى هذا أن في القرآن آيات كثيرة تناولت مهمات الأمور، ومع ذلك لم تنزل إلا بعد تلبث وطول انتظار؛ فدلَّ هذا على أن القرآن كلام الله لا كلام محمد؛ لأنه لو كان كلام


(١) البخاري (١٣٠٠)، مسلم (٢٤٠٠).
(٢) النبأ العظيم (٥٧: ٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>