الوجه الثالث: لا ينبغى دائمًا البحث عن الحكمة من وراء العبادة بل الأصل السمع والطاعة.
لا يجب على الإنسان أن يعلم الحكمة في جميع ما شرعه الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك ليس في قوى البشر، ولا في وسعهم وطاقتهم، وإنما يجب هذا على الأعيان الذين أهَّلهم الله لمعرفة ما أنزله الله، وأطلعهم عليه، وأما من كان عاجزًا عن ذلك، وليس في طاقته ووسعه معرفة ذلك والاطلاع عليه، فالواجب عليه أن يؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا عامًا مجملًا، وأن يعمل بما أمر الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، سواء عرف الحكمة في ذلك أو لم يعرفها.
فإذا وعى الإنسان ذلك كان نورًا بين يديه يبصر به حكم سائر مناسك الحج والأمور التي تَعَبَّدَنا الله تعالى بها لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال سواء عرفنا سبب كل عمل منها وحكمته أم لا، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين المخلصين، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى، وإن لاستحضار ذلك لتأثيرًا عظيمًا في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به، والثقة بأنه دين الله الخالص الذي لا يقبل غيره، فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها لا يضرنا ذلك، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب من عدة أجزاء، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض، فإن ذلك لا يثنينا عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها.
قال ابن القيم: إن الحكمة لا يجب أن تكون بأسرها معلومة للبشر، ولا أكثرها بل لا نسبة لما علموه إلى ما جهلوه فيها، لو قيست علوم الخلائق كلهم بوجوه حكمة الله تعالى في خلقه وأمره إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرة عصفور في البحر، وحسب الفطن اللبيب أن يستدل بما عرف منها على ما لم يعرف، ويعلم الحكمة فيما جهله منها مثلها فيما علمه؛ بل أعظم وأدق، وما مثل هؤلاء الحمقى النوكى إلا كمثل رجل لا علم له بدقائق الصنائع والعلوم من البناء والهندسة والطب، بل ولا الحياكة والخياطة والنجارة إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيء من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم فخفيت عليه فجعل كل ما خفي عليه منها شيء قال هذا لا فائدة فيه، وأي حكمة تقتضيه هذا مع أن أرباب الصنائع بشر مثله يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم، ويفوقهم فيها. فما الظن بمن