و {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أي لا إكراه في الدخول فيه، لأن الإيمان إذعان وخضوع، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالحجة والبرهان.
وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين، بل من أوليائه، أن الإِسلام ما قام إلا والسيف ناصره، فكان يعرض على الناس، فإن قبلوه نجوا، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه، فهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإِسلام حين كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي مستخفيًا، والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب، ولا يجدون زاجرًا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة، أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإِسلام؟ اللهم لا هذا ولا ذاك، وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه الغزوة، فإن غزوة بني النضير كانت في السنة الرابعة من الهجرة.
هذا وقد كان معهودًا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول في دينهم، ثم أكد عدم الإكراه قوله:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أي: قد ظهر أن هذا الدين الرشد والفلاح، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غيّ وضلال (١).
[الوجه الثاني: لا تناقض بين الآية وقتل المرتد.]
وقد يتساءل البعض: أليست هذه العقوبة مناقضة للحرية الدينية التي أقرها الإِسلام بقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ولقوله تعالى للنبي الأمين -صلى اللَّه عليه وسلم- {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؟ .
والجواب: أن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول في الإِسلام، والإِسلام يريد ممن يدخل فيه أن يكون مخلصًا في طلبه في الدخول فيه؛ مدركًا حقائقه ومزاياه، ولذلك قرن نفي الإكراه في الآية الأولى بقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ
(١) تفسير المراغي (البقرة/ ٢٥٦)، المنار (البقرة/ ٢٥٦).