للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشِعْرَ بُلغائهم لا ينفكّ من تصرفٍ في غريب مستنكر، أو وحشي مستكره، ومعانٍ مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلامٍ مبتذلٍ وضيعٍ لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحوّلهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرّف بين المنزلتين. فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس: قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل. (١)

[الوجه السابع عشر: الإعجاز النفسي.]

قال القاضي عياض: مشيرًا إلى تأثير القرآن في النفوس وهو يَعُدُّ وجوه الإعجاز، ومنها: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيئة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله، وإنافة خَطَره، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفورًا، كما قال تعالى، ويودّون انقطاعه لكراهتهم له، . . .، وأمّا المؤمن فلا تزال روعته به، وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذابًا، وتكسبه هشاشةً لميل قلبه إليه، وتصديقه به). (٢)

وقد مات جماعةٌ عند سماع آيات منه أُفرِدُوا بالتصنيف (٣)

قال السيوطي: وقد قلت في إعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس؛ وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: ٢١]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ} [الزمر: ٢٣]. (٤)

فمن أمثلة التأثير المفضي إلى الإيمان ما أخرجه البخاري من حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ


(١) إعجاز القرآن للباقلاني (١/ ٤٦)
(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ١/ ٢٣٠، ٢٣١.
(٣) الإتقان في علوم القرآن (٢/ ٣٢٣).
(٤) الإتقان في علوم القرآن (٢/ ٣٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>