للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذكره لشبع بطنه فيما روي عنه من روايات هو: بيان تفرغه التام لملازمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحفظه لما سمعه منه، وأنه لم يشغله عن ذلك شاغل، حتى لقمة العيش التي قد تشغل غيره، حيث وجدها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ما قال ذلك عبثًا أو سذاجة، كما زعم البعض، وإنما أراد به الرد علي من قالوا: إن أبا هريرة قد أكثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ما يفهم من قوله: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينًا، أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ... الحديث.

الوجه الثاني: لو كان همه إشباع بطنه لكان بإمكانه البحث عنه عند أمير من أمراء اليمن، أو رئيس قبيلة من قبائلها، يعمل عنده بزراعة، أو رعي مواش، أو غير ذلك، ولوفر على نفسه عناء السفر، وترك الأهل والعشيرة والبلد، وبالهجرة من اليمن إلى الحجاز، إلى رجل لم يكن ملكًا، أو ذا سلطان أومال يومها، ولم يكن قد تخلص من أعدائه الثلاثة المتربصين به الدوائر: المشركين في مكة وغيرها، والمنافقين في المدينة وحولها، واليهود المجاورين لها، وكانت احتمالات النصر والهزيمة كلها واردة في المقاييس البشرية والمادية، ولم تغب هذه الاحتمالات عن ذهن أبي هريرة الشاب الفطن واليماني الحكيم، وهو يحث رحاله نحو المدينة، نحو النور الذي شع فيها: ملبيًا دعوة الحق، دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دعوة الإيمان بالله الواحد الأحد، وقد شهد بعد وصوله المدينة بيومين أو ثلاثة: غزوة خيبر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وشهد معه المشاهد بعدها، ولازمه حتى وفاته، وحفظ منه لم يحفظه كثيرون سواه، ممن تشرفوا بصحبته -صلى الله عليه وسلم-، نعم يحث رحاله متوجهًا إلى طيبة وهو ينشد:

يا ليلة من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نجت (١).

الوجه الثالث: لو كان همه إشباع بطنه، لترك ملازمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبحث عمن يشبعها له من موسري الصحابة -رضي الله عنهم- أو غيرهم من أهل المدينة، بعمل أو غيره إذا لم يتيسر


(١) أبو هريرة للضاري (صـ ٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>