وأذكر أنه مرة سألني سائل فقال: إن الشريعة كما حصرت العبادة في الله تعالى فقد حصرت الاستعانة فيه أيضًا؛ إذ ورد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)}، فكما أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلا له دون غيره؛ فكذلك أمرنا أن لا نستعين بغيره أيضًا؟ .
فأجبته: إن كل عمل يعمله الإنسان تتوفق ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤداة إليه؛ وعلى انتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه.
وقد مكن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقول بما في استطاعتنا من ذلك ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة، وأن نتعاون ويساعد بعضُنا بعضًا على ذلك ثم نفوض الأمر فيما وراء ذلك إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه وحده ونطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة لثمرته منه سبحانه دون سواه؛ إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا مسبب الأسباب ورب الأرباب.
فقول يوسف - عليه السلام - ههنا:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} هو من قبيل الاستعانة بالأسباب التي نصبها الله تعالى وجعلها بتوفيقه ذريعة للمقصود، وهذا الضرب لا مانع منه كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، ولنضرب لذلك مثلًا: الزارع يبذل جهده في الحرث، والغرس، وتسميد الأرض، وريها، يفعل ذلك بنفسه، ويستعين بالله تعالى على إتمام ذلك بمنع الآفات والجوائح السماوية أو الأرضية، وإشراق الشمس، وإنزال المطر الكافي على سبيل التعانت بين الشمس والمطر بمقدار اللزوم، فالاستعانة بالعبد على القسم الأول جائزة طبعًا وشرعًا، وأما الاستعانة على القسم الثاني فإنما هي بالله وحده (١).
الوجه الثاني: أرسل إلى الملك ليتوصل إلى دعوته إلى الله.