للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتبين أن كل هذه التأويلات تكلف وتعسف، وعاد الأمر إلى ما هو الظاهر وهو صرف الضمير في ذريتهما إلى إسماعيل -عليه السلام- الذي سبق ذكره، وإلى إسحاق -عليه السلام- (١).

[٧ - الحجة السابعة: الاستدلال بأن القاعدة في الابتلاء والامتحان لأول ولد.]

فإن الله سبحانه وتعالى أَجْرَى الْعَادَةَ الْبَشَرِيّةَ أَنّ بِكْرَ الْأَوْلَادِ أَحَبُّ إلَى الْوَالِدَيْنِ مِمّنْ بَعْدَهُ، وإِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- لمّا سَأَل رَبّهُ الْوَلَدَ وَوَهَبَهُ لَهُ تَعَلّقَتْ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ بِمَحَبّتِهِ وَالله تَعَالَى قَدْ اتّخَذَهُ خَلِيلًا، وَالْخُلّةُ مَنْصِبٌ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ المُحْبُوبِ بِالمُحَبّةِ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِيهَا، فَلَمّا أَخَذَ الْوَلَدُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِ الْوَالِدِ جَاءَتْ غَيْرَةُ الْخُلّةِ تَنتزِعُهَا مَنْ قَلْبِ الْجلِيلِ فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ المُحْبُوبِ، فَلَمّا أَقْدَمَ عَلَى ذَبْحِهِ وَكَانَتْ محَبةُ الله أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ محَبةِ الْوَلَدِ خَلَصتِ الْخُلّةُ حِينَئِذٍ مِنْ شَوَائِبِ المُشَارَكَةِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الذّبْحِ مَصْلَحَةٌ إذْ كَانَتِ المُصْلَحَةُ إنّمَا هِيَ فِي الْعَزْمِ وَتَوْطِينِ النّفْسِ عليهِ فَقَدْ حَصلَ المُقْصُودُ فَنُسِخَ الْأَمْرُ وَفُدِيَ الذّبِيحُ وَصَدّقَ الْخَلِيلُ الرّؤيا وَحَصَلَ مُرَادُ الرّبّ، حَصلَ عِنْدَ أَوّلِ مَولودٍ وَلَمْ يَكُنْ ليَحْصُلَ فِي المولودِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوّلِ بَلْ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ المُولودِ الْآخَرِ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْخُلّةِ مَا يَقْتَضي الْأَمْرَ بِذَبْحِهِ وَهَذَا فِي غَاية الظّهُورِ (٢).

[٨ - الحجة الثامنة: الاستدلال بغيرة سارة]

قال ابن القيم: فَإِنّ سَارَةَ امْرَأَةَ الْخَلِيلِ -صلى الله عليه وسلم- غَارَتْ مِنْ هَاجَرَ وَابْنِهَا أَشَدّ الْغَير فَإِنّمَا كَانَتْ جَارِيةً فَلَمّا وَلَدَتْ إسْمَاعِيلَ وَأَحَبّهُ أبُوهُ اشْتَدّتْ غَيْرَةُ "سَارَةَ" فَأَمَرَ الله سُبْحَانَهُ أَنْ يُبْعِدَ عَنْهَا "هَاجَرَ" وَابْنَهَا ويسْكِنها فِي أَرْضِ مَكّةَ لِتَبْرُدَ عَنْ "سَارَةَ" حَرَارَةُ الْغَير وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَرَأْفَتِهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهَا وَيَدَعَ ابْنَ الجارِية بِحَالِهِ هَذَا مَعَ رَحْمَةِ الله لَهَا وَإِبْعَادِ الضّرَر عَنْهَا وَجَبْرِه لَهَا، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بَعْدَ هَذَا بِذَبْحِ ابْنِهَا دُونَ ابْنِ الجْارِية؟ ! بَلْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ اقْتَضَتْ أَنْ يَأْمُرَ بِذَبْحِ وَلَدِ السّرّيّةِ فَحِينَئِذٍ يَرِقّ قَلْبُ السّيّدَةِ عليهَا وَعَلَى وَلَدِهَا وَتَتبَدّلُ قَسْوَةُ الْغَير رَحْمَةً وَيَظْهَرُ لَهَا بَرَكَةُ هَذِهِ الجارِيةِ وَوَلَدِهَا وَأَنّ الله لَا يُضِيعُ بَيْتًا هَذِهِ وَابْنها مِنْهُمْ وَليُرِيَ عِبَادَهُ جَبْرَهُ بَعْدَ الْكَسْرِ، وَلُطْفَهُ بَعْدَ الشّدّةِ، وَأَنّ عَاقِبَةَ صَبْرِ "هَاجَرَ" وَابْنِهَا عَلَى الْبُعْدِ


(١) الرأي الصحيح ص ٨٧ - ٨٩.
(٢) زاد المعاد لابن القيم ١/ ٧٠، التحرير والتنوير ٢٣/ ١٥٧، ابن كثير في تفسيره ١٢/ ٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>