واعلم أن الحكمة هي: الإصابة في القول والعمل، ولا يسمى حكيمًا إلا من اجتمع له الأمران وقيل: أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه (١).
[الوجه الثاني: النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله ليمحو أمية الجهل بالله، لا أمية الجهل بالقراءة والكتابة.]
فلم نسمع عن نبي قط في الكتب السماوية قام بتعليم الناس القراءة والكتابة، باعتبارها أنها المرحلة الأولى التي لا بد منها، وظل على ذلك إلى أن خرَّج من مدرسته قراء وكتبة، ثم اجتاز بهم ليصل إلى المرحلة الثانية بتعليمهم الدين.
والسؤال: لو أن تلامذة هذا النبي المقربين إليه لم يستطيعوا أن يتعلموا القراءة والكتابة لكبر سِنِّهم، أو لانشغالهم بطلب السعي على رزق أولادهم، هل معنى ذلك أنهم سيُحرمون من اجتياز المرحلة الأولى، وأنهم لن يستطيعوا أن يتعلموا الدين؟ .
فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرسِل أولًا ليعلم الناس القراءة والكتابة، حتى يتسنى لهم أن يقرؤا القرآن من المصحف ادعاء باطل، ويظهر بطلانه؛ أنه لا بد أن يكون كل من يدخل الجنة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يشترط أن يكون قارئًا كاتبًا، وأما غير ذلك فالنار أولى به.
قال الرازي: ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - هو: الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة، ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق. قوله:{وَيُزَكِّيهِمْ} فأول معاني التزكية، قال الحسن: يزكيهم: يطهرهم من شركهم، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال، لا حكمة فيهم، ولا كتَّاب، وأن الشرك ينجسهم، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولًا منهم، يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم. وثانيها: التزكية: هي الطاعة لله