للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والطبيب يمزِّق اللحم، ويهشم العظم، ويبتر العضو؛ وما فعل ذلك إلا رحمة بالمريض ولعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود، والأخذ على أيدي السفهاء، وأَطْرِهِمْ على الحق أطرًا، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)} [البقرة: ١٧٩].

والشفقة على المجرمين تخفي أشدَّ أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجّع الشواذ على الإجرام، والشفقة على المجرمين سمَّاها القرآن الكريم رأفة، ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: ٢].

إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس، لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك إنصاف، ولكنها شدةٌ وانحراف في دائرة مجردة وهوى مضلِّ.

والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة، لا يُستثنى منها إنسان ولا دابة ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطر ومَثار رُهب؛ فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يُحبس شره ويُكف ضرره؛ بل إن الشدة معه رحمةٌ به وبغيره.

[الوجه الثالث: دين الإسلام يحث على العفو والصفح، وينهى عن العنف وعن العدوان ولو في أخذ الحق ممن بدأ بالاعتداء.]

وهذا كثير في شرعة الإسلام قرآنًا وسنة نذكر من ذلك:

١ - قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)} [فصلت: ٣٤]، يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ادفع، يا محمد، بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم ويلقاك من قِبلهم.

عن سعيد بن المسيب قال: وضع عمر بن الخطاب للناس أحد عشرة كلمة حِكَمٌ كلها، قال: ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه (١).


(١) الطبري (٢١/ ٤٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>