للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله -عَزَّ وَجَلَّ- غني عن خلقه، فلا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي:

فبين سبحانه أن ما أمرهم به من الطاعات، وما نهاهم عنه من السيئات لا يتضمن استجلاب نفعهم ولا استدفاع ضررهم، كأمر السيد عبده والوالد ولده، والإمام رعيته بما ينفع الامر والمأمور، ونهيهم عما يضر الناهي والمنهي، فبين تعالى أنه المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به، وأنهم لو أطاعوه كلهم لم يزيدوا في ملكه شيئًا، ولو عصوه كلهم لم ينقصوا من ملكه شيئًا، وأنه الغني الحميد، ومن كان هكذا فإنه لا يتزين بطاعة عباده، ولا تشينه معاصيهم، ولكن له من الحكم البوالغ في تكليف عباده وأمرهم ونهيهم ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى بحسب قواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظم وأجلُّ من أن يقدر خلقه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائعهم وقواهم، فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم، ولا أنفع للعبد منه فهذان مسلكان آخران في حسن التكليف والأمر والنهي:

أحدهما: يتعلق بذاته وصفاته وأنه أهل لذلك وإن جماله تعالى وكماله وأسماءه وصفاته تقتضي من عباده غاية الحب والذل والطاعة له.

والثاني: متعلق بإحسانه وإنعامه ولا سيما مع غناه عن عباده وانه إنما يحسن إليهم رحمة منه وجودًا وكرمًا لا لمعاوضة ولا لاستجلاب منفعة ولا لدفع مضرة وأي المسلكين سلكه العبد أوقفه على محبته وبذل الجهد في مرضاته. (١)

فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الحكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي المَعَاشِ وَالمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إضَاعَتِهَا، فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ الله بِهَا رَسولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالمِ (٢).

الله -عَزَّ وَجَلَّ- أفعاله كلها حكمة، فلا يناقض عدل رحمته:


(١) مفتاح دار السعادة ٢/ ٤٥٠.
(٢) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم ٣/ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>