للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوجه الأول: معنى الآية وسبب نزولها.]

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به: أنه قد غَضب عليه؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذابًا عظيمًا في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهدِ الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم فلا يعقلون بها شيئًا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئًا، فهم غافلون عما يراد بهم، {لَا جَرَمَ} أي: لا بد ولا عجب أن من هذه صفته {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم يوم القيامة. وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مُكْرَهًا لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. (١)

وقد نقل أهل التفسير أن الآية نزلت في عمار بن ياسر؛ قال ابن عباس: وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدّثه بالذي لقي من قريش والذي قال: فأنزل الله تعالى عذره: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وعن قتادة قال: ذُكِر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا: اكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره، فأنزل الله تعالى ذكره: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: من أتى الكفر على اختيار واستحباب {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر؛ قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ عادُوا فَعُدْ" (٢).

[الوجه الثاني: التفصيل في مسألة الإكراه.]

١ - جواز التلفظ بكلمة الكفر.


(١) تفسير ابن كثير (٨/ ٣٥٧).
(٢) تفسير الطبري (١٧/ ٣٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>