للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سيد يقول لعبده: لقد أسأتَ ولكني عفوت عنك وأذنت لك (١).

الوجه الرابع: تبرؤ محمد - صلى الله عليه وسلم - من نسبة القرآن إليه ليس ادعاءً يحتاج بينة، بل هو إقرار يؤخذ به صاحبه.

في الحقيقة إن هذه القضية لو وجدت قاضيًا يقضي بالعدل، لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس (الدعاوى) فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع (الإقرار) الذي يؤخذ به صاحبه، ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه، أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول أي مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخًا؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدًا يعارضه ويزعمها لنفسه.

الذي نعرفه أن كثيرًا من الأدباء يسطون على آثار غيرهم، فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله، وغلت قيمته وأمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى، ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأبواب المستعارة؛ أمَّا أن أحدًا ينسب لغيره أنفس آثار عقله، وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد (٢).

[الوجه الخامس: موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من النص القرآني موقف المفسر الذي يتلمس الدلالات، ويأخذ بأرفق احتمالاتها.]

وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع العتاب عليها، لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثمًا، اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشُبه في دين الله. لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحًا، أو جاوزه خطأ ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير. هَبْهُ مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأفضل، أليس معذورًا ومأجورًا؟


(١) النبأ العظيم (٥٥).
(٢) النبأ العظيم (٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>