ولنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية؟ مثال ذلك:
ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه وصيانته {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرعد: ١٧]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: ٢٤, ٢٥]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)} [الحجر: ٩]، أتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟ إنها آيات مكية من سور مكية، وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة؟
ثلاث عشرة سنة كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآن، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك، الذي طوله عشرة أعوام، شعاعًا ولو ضئيلًا من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكمًا قاطعًا؟ وهَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك، وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح، فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح! وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عَفَت ودرست آثارها! وكم من نبي قتل! وكم من كتابٍ فُقد أو انتُقص أو بُدِّل! وهل