للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْ أصابَ من الخير شيئًا ما أصابَه هذانِ، قال: وما ذاك؟ قالت: قلتُ: لعنتَهما وسببتَهما، قال: أَوَ ما علمتِ ما شَارَطْتُ عليه ربي؟ قلتُ: اللهم إنما أنا بشرٌ؛ فأيُّ المسلمين لعنتُه أو سببتُه فاجعلْه له زكاةً وأجرًا (١).

وبحديثِ أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنما أنا بشرٌ؛ فأيُّما رجلٍ من المسلمين سببتُه أو لعنتُه أو جلدتُه فاجعلْها له زكاةً ورحمةً وقُرْبَةً تقربُه بها إليك يومَ القيامةِ" (٢).

وهذا هو الظاهرُ من صنيعِ الإمامِ مسلمٍ -رحمه اللهُ- حيث أوردَ هذه الأحاديثَ السابقةَ ثم أوردَ بعدَها حديثَ ابنِ عباسٍ -رضي الله عنه- في قولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في معاويةَ: "لَا أَشْبَعَ اللهُ بطنَه" وكأنَّه يذكرُ هذا الحديثَ في شأنِ معاويةَ ليجعلَه مثالًا على ما شَرَطَه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على ربِّه.

وفي روايةٍ: "إني اشترطتُ على ربي، فقلتُ: إنما أنا بشرٌ؛ أَرضَى كما يَرضَى البشرُ، وأَغضَبُ كما يَغضَبُ البشرُ، فأيُّما أحدٍ دعوتُ عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ أنْ تجعلَها له طَهورًا وزكاةً وقُرْبَةً". (٣)

قال النووي: هذه الأحاديثُ مُبَيِّنَة ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الشَّفَقَةِ على أمتِه، والاعتناءِ بمصالحِهم، والاحتياطِ لهم، والرغبةِ في كل ما ينفعُهم، وهذه الروايةُ المذكورةُ آخرًا تبَيِّنُ المرادَ بباقي الرواياتِ المطلَقةِ، وأنَّه إنما يكون دعاؤه عليه رحمةً، وكفارةً، وزكاةً، ونحوَ ذلك، إذا لم يكن أهلًا للدعاءِ عليه، والسبِّ، واللعنِ ونحوِه، وكان مسلمًا، وإلا فقد دعا -صلى الله عليه وسلم- على الكفارِ، والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمةً، فإنْ قيلَ: كيف يدعو على من ليس هو بأهلٍ للدعاءِ عليه، أو يسبُّه، أو يلعنُه، ونحوُ ذلك؟ فالجوابُ ما أجابَ بِه العلماءُ، ومختَصَرُه وجهانِ:

أحدهما: أنَّ المرادَ ليس بأهلٍ لذلك عندَ الله تعالى وفي باطنِ الأمرِ، ولكنَّه في الظاهرِ مستوجِبٌ له فيظهرُ له -صلى الله عليه وسلم- استحقاقُه لذلك بأمَارةٍ شرعيةٍ، ويكونُ في باطنِ الأمرِ ليس أهلًا لذلك، وهو -صلى الله عليه وسلم- مأمورٌ بالحكمِ بالظاهرِ، واللهُ يتولى السرائرَ.


(١) مسلم (٢٦٠٠).
(٢) مسلم (٢٦٠١).
(٣) مسلم (٢٦٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>