والمذاهب المبتدعة، فحين قام فيهم -صلى الله عليه وسلم- بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر، وغيروا في وجه صوابه بالإفك، ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشرعة ونابذهم في النحلة كل محال، ورموه بأنواع البهتان؛ فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وكرة يقولون: إنه مجنون مع تحققهم بكمال عقله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا دعاهم إلى عبادة المعبود بحق وحده لا شريك له قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)} [ص: ٥]، مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة الصادقة:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[العنكبوت: ٦٥].
وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة أنكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦)} [الصافات: ١٦]، وإذا خوفهم نقمة الله قالوا:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: ٣٢](١).
فكذلك كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم؛ لأنه خرج عن معتادهم، أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ليوقعوا بينهم ويين المؤالفة والموافقة، ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال أو على بعض الوجوه ويقنعوا منه بذلك ليقف لهم بتلك الموافقة واهٍ بناؤه فأبى -صلى الله عليه وسلم- إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب، وأنزل الله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة، فنصبوا له عند ذلك حرب العدواة ورموه بسهام القطيعة وصار أهل السلم كلهم حربًا عليه، فأقربهم إليه نسبًا كان أبعد الناس عن موالاته كأبي جهل وغيره، وألصقهم به رحمًا كانوا أقسى قلوبًا عليه؛ فأي غربة توازي هذه الغربة؟ ! ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه، ولا سلطهم على النيل من أذاه إلا نيل المصلوفين، بل حفظه وعصمه وتولاه بالرعاية والكلاء حتى بلغ رسالة ربه.