للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحصيل تلك القربة، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: إياك نعبد وإياك نستعين. (١)

وقال ابن عادل: قال ابن الخطيب: إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب. (٢)

وقال أبو السعود: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. (سر تكرار الفاتحة في الصلاة) التفات من الغَيْبة إلى الخطاب، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن، كما في قوله - عز وجل -: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} الآية، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها، ومزايا تستدعيها، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز، وأتمَّ ظهورٍ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب، والإيذانَ بأن حقّ التالي بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس، المستوجبِ للعبودية، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضرًا في محاضر الأنس، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلًا: يا من هذه شؤونُ ذاتهِ وصفاتهِ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة، فإن ما سواك كائنًا ما كان بمعزل من استحقاق الوجود، فضلًا عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان، ولعل هذا هو


(١) تفسير الرازي (١/ ٢٣١ - ٢٣٢).
(٢) اللباب (٨/ ٤٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>