اشتغلوا بذلك ولا عولوا عليه - علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمرمدون في هذا الشأن، وإن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن، وقد ذهب أولئك النفر عنه، وخفي عليهم مع شدة حاجتهم عندهم إلى الطعن في القرآن، والغض منه، والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه، فلن يجوز أن يخفي على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق (١).
فالقرآن لم يخرج عن معهود لغة العرب؛ فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جمله وآياته، وهذا من إعجاز القرآن وإفحامه للعالمين أجمعين؛ إذ حروف اللغة وكلماتها موجودة ملك الجميع لكن من ذا الذي يؤلف بينها؟ .
يقول عبد الله دراز: صنعةُ البيان مثلُ صنعةِ البنيان، فالمهندسون البَنَّاءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعًا، وسقفًا موضوعةً، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأَكَنِّها للناس من الحَرِّ والقَرِّ وفي الانتفاع بالساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، فمنهم من يفي بذلك، ومنهم من يخل بشيء منه، كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة، وليست كل هذه الطرائق تجمل في كل موطن أو تقبح في كل موطن إذًا لأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا. . . والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الطرائق فضلًا عن حسن الاختيار فيها إلى أن يتكون الأسلوب الخاص بكل إنسان وعلى حسب ذلك يقع التفاوت في درجات الكلام.
فالجديد في لغة القرآن، أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير أشرف المواد، وأمسها بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها