وثالثها: أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه؛ وذلك لأنه اقتصر على قوله:{مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}[يوسف: ٥٠]، وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب.
ورابعها: براءة حاله عن جميع أنواع التُّهم، فإن الخصم أقرَّ له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم.
وخامسها: أن الشرابي - الذي كان يسقي الملك - وصف له جدَّه في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوا في السجن.
وسادسها: أنه بقي في السجن بضع سنين. وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان، فكيف مجموعها؟ فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئًا جمع أسبابه وقواها.
واعلم أن قوله:{مَكِينٌ أَمِينٌ} كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب، وذلك لأنه لا بد في كونه مكينًا من القدرة والعلم، أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة، وأما العلم فلأن كونه متمكنًا من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالمًا بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك، فثبت أن كونه مكينًا لا يحصل إلا بالقدرة والعلم. أما كونه أمينًا فهو عبارة عن كونه حكيمًا لا يفعل الفعل لداعي الشهوة، بل إنما يفعله لداعي الحكمة، فثبت أن كونه مكينًا أمينًا يدل على كونه قادرًا، وعلى كونه عالمًا بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه. فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا: إنه تعالى لا يفعل القبيح؛ لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنيًا عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح، قالوا: وإنما يكون غنيًا عن القبيح إذا كان قادرًا، وإذا كان منزهًا عن داعية السفه (١).