للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفارسي، الذي بدأنا بذكره، وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء، فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقها ومذاهبها - فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع ويتجاوز حدود القدرة - فليس يخفى عليه إعجاز القرآن، كما يميّز بين جنس الخطب والرسائل والشعر، وكما يميّز بين الشعر الجيّد والرديء، والفصيح والبديع، والنادر والبارع والغريب، وهذا يميّز أهل كل صناعة صنعتهم، فيعرف الصيرفي من النقد ما يخفى على غيره، ويعرف البزّاز من قيمة الثوب وجودته ورداءته ما يخفى على غيره، وإن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن أمر آخر، وربّما اختلفوا فيه، لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين والقول الرصين، ومنهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه، وتروع بهجته ورواؤه، ويسلس مأخذه ويسلم وجهه ومنفذه، ويكون قريب المتناول، غير عويص اللفظ، ولا غامض المعنى، كما قد يختار قوم ما يغمض معناه، ويغرب لفظه، ولا يختار ما سهل على اللسان وسبق إلى البيان، وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصف زهيرًا فقال: كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه، وقال لعبد بني الحسحاس حين أنشده:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا ... أما إنه لو قلت مثل هذا لأجَزْتُك عليه

ومنهم من يختار الغلو في قول الشِّعر والإفراط فيه حتى ربما قالوا: أحسن الشعر أكذبه، كقول النابغة:

يقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصفاح نار الحباحب (١)

فالخلاصة:

إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالًا، وكذلك من ليس ببليغ؛ فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العرب، وغرائب الصنعة؛ فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه، وعجز غيره عن الإتيان بمثله. (٢)


(١) إعجاز القرآن (١/ ١١٣).
(٢) الإتقان في علوم القرآن ٢/ ٣٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>