للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه، كان أبلغ في الأعجوبة إذا صُرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب، على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادّعاه أيكن مَن قَبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة، والبلاغة وحسن النظم، وعجيب الرصف؛ لأنهم لم يتحدوا إليهن ولم تلزمهم حجته، فلما لم يوجد في كلام مَن قَبله مثله عُلم أنَّ ما ادعاه القائل بالصِرفة ظاهر البطلان.

وفيه معنى آخر وهو: أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلامًا مطمعًا لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم، ومن كان متناهيًا في فصاحته، لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال، فإن قال: صاحب السؤال إنه قد يطمع في ذلك.

قيل له: أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي يضارع القرآن، وقد يزيد عليه في الفصاحة، ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظًا ومعنًى؛ ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه، ويحسبه ظان من أمره، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد، ونحن نبيّن بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب؛ ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ببين الغلط، وأن هذا التقدير من جنس مَن حكي الله - تعالى - قولُه في محكم كتابه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)} [المدثر: ١٨ - ٢٥]؛ فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله، وأن ذلك من قول البشر؛ لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته. (١)

٩ - سبب انصراف الفصحاء عن نقد القرآن: ولولا أن القرآن له وجوه الإعجاز، لما تحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل - أي التصنع - للمقابلة، والتصنع


(١) إعجاز القرآن للباقلاني ١/ ٢٥ - ٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>