للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما فهمته تلك الأجيال، ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة، وكان ذلك قدحًا في أنه كتاب الدين العام الخالد، ودستور البشرية في كل عصر ومصر. (١)

أمثلة:

إن القرآن في أغلب المواضع يأتي بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير، ويكون اللفظ أعذب، ومن تأمل في سورة (ص) علم ما قلت، كيف صدرها وجمع فيها من أخبار الكفار وخلافهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، ومن تكذيبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن إجماع ملإهم على الكفر، وظهور الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتحقيرهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة، وتكذيب الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم، ووعيد قريش وأمثالهم مثل مصابهم. وحمل النبي على الصبر على أذاهم وتسليته في قصص الأنبياء مثل داود وسليمان وأيوب وإبراهيم ويعقوب وغيرهم عليهم السلام. وكل هذا الذي ذكر من أولها إلى آخرها في ألفاظ يسيرة متضمنة لمعان كثيرة.

وكذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)} [البقرة: ١٧٩] فإن هذا القول لفظه يسير ومعناه كثير. ومع كونه بليغًا مشتملًا على المطابقة بين المعنيين المتقابلين، وهما القصاص والحياة. وعلى الغرابة، بجعل القتل الذي هو مفوت للحياة ظرفًا لها، وأولى من جميع الأقوال المشهورة عند العرب في هذا الباب؛ لأنهم عبروا عن هذا المعنى بقولهم: (قتل البعض إحياء الجميع) وقولهم: (أكثروا القتل ليقل القتل) وقولهم: (القتل أنفى للقتل). وأجود الأقوال المنقولة القول الأخير.

ولفظ القرآن أفصح منه بستة أوجه:

أحدها: أنه أخصر من الكل؛ لأن قوله {وَلَكُمْ} لا يدخل في هذا الباب؛ لأنه لا بد من تقدير ذلك في الكل؛ لأن قول القائل - قتل البعض إحياء للجميع - لا بد فيه من تقدير مثله، وكذلك في قولهم - القتل أنفى للقتل.


(١) مناهل العرفان في علوم القرآن ٢/ ٣٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>