الجمل أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، واستحضار هذا متعذر على البشر في أكثر الأحوال؛ وذلك عتيد حاصل في علم الله تعالى؛ فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملًا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح.
- ولذلك أمثلة منها: قوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن: ٥٤]، لو قال مكانه وثمر الجنتين قريب، لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجني والجنتين، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يُجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: ٤٨] أحسن من التعبير بـ تقرأ لثقله بالهمزة. ومنها قوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: ٢] أحسن من - لاشك فيه - لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب، ومنها:{فَلَا تَهِنُوا}[محمد: ٣٥] أحسن من - ولا تضعفوا - لخفته، و {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}[مريم: ٤] أحسن من - ضعف - لأن الفتحة أخف من الضمة، ومنها {آمَنَ}[غافر: ٣٠] أخفّ من - صدق - ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق، و {آثَرَكَ اللَّهُ}[يوسف: ٩١] أخفّ من - فضّلك، وآتى من قوله:{آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}[البقرة: ٢٥٨] أخف من - أعطى - وأَنْذِر من قوله:{أَنْذِرِ النَّاسَ}[يونس: ٢] أخفّ من - خوّف و {خَيْرٌ لَهُ}[البقرة: ١٨٤] أخفّ من - أفضل لكم - والمصدر في نحو {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}[لقمان: ١١] أخف من - مخلوق - وتَنْكِحَ من قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة: ٢٣٠] أخف من - تتزوج - لأن تفْعل أخفّ من تفعَّل ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر.
ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ الرحمة والغضب، والرضا، والحب، والمقت في أوصاف الله تعالى، مع أنه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام؛ كأن يقال: يعامله معاملة المحب والماقت؛ فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة لخفّته، واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ فإن قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا