كلام الله تعالى تمسكًا بقول عمر - رضي الله عنه - حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس: كل هذا قد عرفناه فما الأبُّ؟ ، ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لَعمْرُ الله هو التكلُّف، وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأبُّ؟ ، ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. (١)
وقال سعيد النورسي: إن قلت: إن في القرآن الموجز المعجز أشياء مكررة تكرارًا كثيرًا في الظاهر كـ (البسملة)، و {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)}، و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)} وقصة موسى وأمثالها، مع أن التكرار يُمِلُّ وينافي البلاغة.
قيل لك: مَا كُلُّ مَا يَتَلأْلأُ يُحْرِقُ، فإن التكرار قد يُمِلُّ لا مطلقًا، بل قد يُستحسن وقد يُسأم، فكمَا أن في غذاء الإنسان ما هو قُوت كلما تكرر حلا وكان آنس، وما هو تفكّه إن تكرر مُلَّ وإن تجدد استُلِذّ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوّة للأفكار وغذاء للأرواح كلما استعيد استحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس، وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكه لذتُه في تجدّد صورتِه وتلوّن لباسه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما أن القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لا يُمَلُّ على التكرار، بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ما هو روح لذلك القوت كلما تكرر تلألأ، وفارت أشعة الحق والحقيقة من أطرافه، وفي ذلك البعض ما هو أسُّ الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسدٍ سرمدي كـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. . . هذا بناء على تسليم التكرار، وإلا فيجوز أن تكون قصة موسى مثلًا مذكورة في كل مقامٍ لوجهٍ مناسب من الوجوه المشتملة هي عليها، فإنّ قصة موسى أجدى من تفاريق العصا، أخذَها القرآن بيده البيضاء فضةً فصاغتها ذهبًا، فخرت سحرةُ البيان ساجدين لبلاغته وكذا في (البسملة) جهات: من الاستعانة، والتبرك، والموضوعية، بل الغايتية، والفهرستية للنقط الأساسية في القرآن.
وأيضًا فيها مقامات: كمقام التوحيد، ومقام التنزيه، ومقام الثناء، ومقام الجلال والجمال، ومقام الإحسان وغيرها.