للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من سوى الله من خلقه {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم أن هذا القرآن مفترى.

وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها، وأظهرها للعقول، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية، قال لهم: هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم، ليس عليكم إلا أن تأتوا، وأنتم الجمع الجمّ، بسورة مماثلة لسورة من سوره، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم، أو من غيرهم من بني آدم، أو من الجنّ، أو من الأصنام، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي، فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي. فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف، والتنزّل البالغ، بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة، بل كاعوا عن الجواب، وتشبثوا بأذيال العناد البارد، والمكابرة المجردة عن الحجة، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل، ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدّي البالغ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فأضرب عن الكلام الأوّل، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن، قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه، وما اشتمل عليه، وهكذا صُنع من تصلب في التقليد، ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه، ويعلم مبناه، كما تراه عيانًا وتعلمه وجدانًا. والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة، والبرهان الواضح، قبل أن يحيط بعلمه، فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب، إلا مجرد كونه جاهلًا لما كذب به غير عالم به، فكان بهذا التكذيب مناديًا على نفسه بالجهل بأعلى صوت، ومسجلًا بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء:

ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه. (١)

ومن هنا نعلم والتاريخ يشهد أن القرآن لو كان مصدره نفس محمد كما يقول أولئك الملاحدة؛ لأمكن هؤلاء العرب البارزين في البيان أن يعرفوا أنه كلامه بما أوتوا من ملكة النقد، وما وهبوا من نباهة الحس والذوق ثم لأمكنهم أن يجاروه ولو شوطًا قريبًا إن لم يمكنهم مجاراته شوطًا بعيدًا، لا


(١) فتح القدير ٢/ ٦٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>