ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له؛ لأن الشعر صنف من القول له موازين وقوافٍ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منزّه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست مِن طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر؛ لأن إنشاد الشعر غير تعلّمه، وكم من راوية للأشعار ومن نَقَّادٍ للشعر لا يستطيع قول الشعر، وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضّل بعض الشعراء على بعض، وهو مع ذلك لا يقرض شعرًا. وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختلّ وزنه في إنشاده، وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، ومنها جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والمُلَح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حدّ الإِغراق وكادّعاء الشاعر أحوالًا لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خِلوٌ من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر. وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَرَضَ الشعر، ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لَعُدَّ غضاضة في شعره، وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حُرمة كماله في أَنْفُسِ قومه يستوي فيها العدوّ والصديق. على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة والإِقبال على السُكر والميسر والنساء، فلو جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل، فتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطة مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة (١).
(١) التحرير والتنوير ٢٣/ ٦٢، ٦٣، ٦٤ بتصرف. ويقول أحمد المراغي في تفسيره ٢٣/ ٣٠: لأن الشعر يسير مع العواطف والأهواء وليس مع ما يمليه العقل الصحيح، فكان مستقر المبالغات والأراجيف والمدائح والتفاخر ومبني على الركون إلى الأهواء تبعًا لفائدة ترجى، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا. والخلاصة: إن الله تعالى كما جعل رسوله أميا لتكون الحجة أتم والبرهان على المشركين أقوم كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدَّعو عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها، والأباطيل التي ينمقها، وليس بوحي من عند ربه.