للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان داعية إلى النصرانية، ورواية الإمام البخاري وهي أوثق رواية في أوثق مصدر تاريخي، وكذا رواية ابن إسحاق لدى الطبري وابن هشام، وغير ذلك من الروايات - أفادت أن نصرانية ورقة كانت قاصرة على نفسه، ولم تكن لديه حماسة التعليم ولا القدرة عليه والتفرغ له، وإلا لكان أنشأ مدرسة لها سمعتها ومشاكلها في الحياة الجاهلية الوثنية، لا تخفى ولا تغيب أخبارها عن أحد أبدًا.

وها أنت ذا تجد أن ورقة يقف مستطلعًا نبأ ما حصل لمحمد، ولم يكن ورقة يومها ولا قبلها معلمًا ولا ملقنًا، ولو كان له بعض ذلك لأعلن ابتهاجه بأن غرسه قد أثمر، لكنه أعلن أن وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - لملك الوحي مطابق لما عنده من صفات ملك الوحي الذي أنزله الله على موسى؛ إذ قال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكَذبنَّه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرنَّ الله نصرًا يعلمه.

أعلن ورقة بصراحة قوية مجلجلة أن هذا الحدث إلهي المصدر، والسبب خارج عن طاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - المخلوق وتصرفه وإرادته، وأن مشيئة الله اختارت محمدًا رسولًا إلى العالمين دون علم سابق منه ودون إرادته أو تطلعه وسعيه، ولكن لماذا أعلن ورقة أن الملك هو ملك الوحي الذي بعثه الله إلى موسى ولم يقل: إلى عيسى؛ علمًا بأن ورقة نفسه يقيم على شيء من النصرانية؟ !

ذهب ابن حجر العسقلاني إلى أن ورقة أعلن بهذا أن الملك الذي لقيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء هو ملك الوحي الذي أجمع أهل الديانتين اليهودية والنصرانية على الإيمان بنزوله على موسى، ولم يقل ورقة: (إنه الذي نزل على عيسى) لأن اليهود ينكرون نبوة عيسى وصلته بوحي الله.

قلت: ورأي اليهود هذا معروف في الجزيرة لاستيطانهم بعضها، فقلد احتاط ورقة فنسب الملك إلى موسى ليكون أبلغ في إعلان اليقين، والتأكيد بأنه ملك الوحي، وأقطع حكمًا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنفى للشك وأبعد للاحتمال والتأويل الذي يجر إليه قذف الموضوع

<<  <  ج: ص:  >  >>