ثم تحداهم الله تعالى بذلك أيضًا في المدينة فقال في هذه الآية:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي: (في) شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني: من مثل (هذا) القرآن؛ قاله مجاهد وقتادة، واختاره ابن جرير بدليل قوله:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}[هود: ١٣]، وقوله:{لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}[الإسراء: ٨٨]، وقال بعضهم: من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني: من رجل أمي مثله. والصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}"ولن": لنفي التأبيد أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه - أيضًا - معجزة أخرى، وهي أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدًا وكذلك وقع الأمر؛ لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟ !
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى؛ قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)} [هود: ١]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت