على وجهٍ لولاه لكان الحكم الأول ثابتًا، وقد علمت من هذا الذي ذكرناه أنه لا حاجة إلى هاتين الزيادتين بل هما تصريح بما علم من التعبير في التعريف بكلمة رفع.
وأما إذا انتفى الأمر الثاني بأن لم يكن بين الدليلين تعارض حقيقي فإنه لا نسخ؛ لأن النسخ ضرورة لا يصار إليها إلا إذا اقتضاها التعارض الحقيقي، دفعًا للتناقض في تشريع الحكيم العليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحيث لا تعارض هناك على الحقيقة فلا حاجة إلى النسخ؛ لأنه لا تناقض. ولا ريب أن إعمال الدليلين ولو بنوع تأويل خير من إعمال دليل وإهدار آخر.
ثانيتها: أن التعريف المذكور يفيد أن النسخ لا يتوجه إلا إلى الحكم وهو كذلك في الواقع ونفس الأمر، وتقسيمهم النسخ إلى نسخ تلاوة ونسخ حكم تقسيم صوري للإيضاح فحسب؛ لأن ما أسموه نسخ تلاوة لم يخرج عن كونه نسخ حكم إذ إن نسخ تلاوة الآية لا معنى له في الحقيقة إلا نسخ حكم من أحكامها، وهو رفع الإثابة على مجرد ترتيلها وصحة الصلاة بها ونحوهما.
ثالثتها: أن هذا التعريف يشمل النسخ الواقع في الكتاب وفي السنة جميعًا، سواء أكانت السنة قولية أم فعلية أو وصفية أم تقريرية، وسواء منها ما كان نبويًا وما كان قدسيًا؛ لأنها كلها وحي بالفعل أو بالقوة، والرسول أقامه الله في محراب الإمامة لخلقه، وجعله الأسوة الحسنة لعباده، وأمر الجميع باتباعه، فهو إذن لا يمكن أن يصدر فيما يشرع لأمته ابتداء أو نسخًا إلا عن إيحاء الله إليه تصريحًا أو تقريرًا.
رابعتها: أن الإضافة في كلمة رفع الحكم الشرعي الواردة في تعريف النسخ من قبيل إضافة المصدر لمفعوله والفاعل مضمر وهو الله تعالى وذلك يرشد إلى أن الناسخ في الحقيقة هو الله كما يدل عليه قوله سبحانه {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}[البقرة: ١٠٦]، ويرشد أيضًا إلى أن المنسوخ في الحقيقة هو الحكم المرتفع، وقد يطلق الناسخ على الحكم الرافع، فيقال: وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء. وقد يطلق النسخ على دليله