قال ابن الجوزي: فأما الفرق بين النسخ والبداء فذلك من وجهين:
الأول: أن النسخ تغيير عبادة أُمر بها المكلف وقد علم الآمر حين الأمر أن لتكليف المكلف بها غاية ينتهي الإيجاب إليها ثم يرتفع بنسخها.
والبداء أن ينتقل الأمر عن ما أمر به وأراده دائما بأمر حادث لا بعلم سابق.
والثاني: أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأول.
والبداء يكون سببه دالًا على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول مثل أن يأمره بعمل يقصد به مطلوبا، فيتبين أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل، فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه، وكلا الأمرين يدلى على قصور في العلم، والحقُّ عز وجل منزه عن ذلك (١).
قال ابن حزم: الفرق بينهما لائح وهو: أن البداء هو أن يأمر بالأمر، والآمر لا يدري ما يؤول إليه الحال، والنسخ هو أن يأمر بالأمر والآمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد، قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه، فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين، وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر؛ ليقع التفاهم، ويلوح الحق، فالبداء ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني الباء والدال والألف، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله - عز وجل -، وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا. وأما النسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده - عز وجل -، كما سبق في علمه تعالى.
ولسنا نكابر على النون والسين والخاء، وإنما نعني المعنى الذي بينّا، وسواء سموه نسخًا أو بداء أو ما أحبوا من الأسماء، ولكن اسمه عندنا النسخ، وبهذه العبارة نعبر عن هذا المعنى الذي لا يخلو لله تعالى فعل منه أصلًا في دار الابتلاء، وكل شيء منها كائن فاسد، وهذا هو النسخ، وهو نوع من أنواع الكون والفساد الجاريين في طبيعة العالم بتقدير خالقه ومخترعه ومدبره ومتممه لا إله إلا هو.